فصل: تفسير الآيات رقم (104- 105)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏98- 99‏]‏

‏{‏إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ‏(‏98‏)‏ لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آَلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏99‏)‏‏}‏

هذه مخاطبة لكفار مكة أي إنكم وأصنامكم ‏{‏حصب جهنم‏}‏ والحصب ما توقد به النار، إما لأنها تحصب به أي ترمى وإما أن تكون لغة في الحطب إذا رمي وأما أن يرمى به فلا يسمى حصباً الا بتجوز، وقرأ الجمهور «حصَب» الصاد مفتوحة، وسكنها ابن السميفع وذلك على إيقاع المصدر موقع إسم المفعول، وقرأ علي بن أبي طالب وأبي بن كعب وعائشة وابن الزبير «حطب جهنم» بالطاء، وقرأ ابن عباس «حضَب» جهنم بالضاد منقوطة وسكنها كثير غيره، والحضب أيضاً ما يرمى به في النار لتوقد به والمحضب العود الذي تحرك به النار أو الحديدة أو نحوه ومنه قول الأعشى‏:‏ ‏[‏المتقارب‏]‏

فلا تك في حربنا محضباً *** لتجعل قومك شتى شعوبا

وقوله ‏{‏وما تعبدون‏}‏ يريد الأصنام وحرقها في النار على جهة التوبيخ لعابدها ومن حيث تقع «ما» لمن يعقل في بعض المواضع اعترض في هذه الآية عبدالله بن الزبعري على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال إن عيسى وعزيزاً ونحوهما قد عبدوا من دون الله فيلزم أن يكونوا حصباً لجهنم فنزلت ‏{‏إن الذين سبقت‏}‏ ‏[‏الانبياء‏:‏ 101‏]‏ ثم قرر الأَمر بالإشارة إلى الأَصنام التي أرادها في قوله ‏{‏ما تعبدون‏}‏، فقال ‏{‏لو كان هؤلاء آلهة‏}‏ وعبر عن الأَصنام ب ‏{‏هؤلاء‏}‏ من حيث هي عندهم بحال من يعقل، و«الورود» في هذه الآية ورود الدخول‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏100- 103‏]‏

‏{‏لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ ‏(‏100‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ‏(‏101‏)‏ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ ‏(‏102‏)‏ لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ‏(‏103‏)‏‏}‏

الضمير في ‏{‏لهم‏}‏ عائد على من يعقل ممن توعد، و«الزفير» صوت المعذب وهو كنهيق الحمير، وشبهه إلا أنه من الصدر، وقوله‏:‏ ‏{‏لا يسمعون‏}‏ قالت فرقة معناه لا يسمعون خيراً ولا ساراً من القول وقالت فرقة إن عذابهم أن يجعلوا في توابيت في داخل توابيت أخرى فيصيرون هنالك لا يسمعون شيئاً ولما اعترض ابن الزبعرى بأمر عيسى ابن مريم وعزيز نزلت ‏{‏إن الذين سبقت لهم منا الحسنى‏}‏ مبينة ان هؤلاء ليسوا تحت المراد لأنهم لم يرضوا ذلك ولا دعوا إليه، و‏{‏الحسنى‏}‏ يريد كلمة الرحمة والحتم بالتفضيل، و«الحسيس» الصوت وهو الجملة ما يتأدى إلى الحس من حركة الأجرام وهذه صفة لهم بعد دخولهم الجنة لأن الحديث يقتضي أن في الموقف تزفر جهنم زفرة لا يبقى نبي ولا ملك إلا جثا على ركبتيه، و‏{‏الفزع الأكبر‏}‏ عام في كل هول في يوم القيامة فكأن يوم القيامة بجملته هو ‏{‏الفزع الأكبر‏}‏ وإن خصص بشيء من ذلك فيجب أن يقصد لأعظم هوله، قالت فرقة في ذلك هو ذبح الموت، وقالت فرقة هو وقوع طبق جهنم على جهنم، وقال فرقة هو الأمر بأهل النار إلى النار، وقالت فرقة هو النفخة الآخرة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا وما قبله من الأَوقات أشبه أن يكون فيها ‏{‏الفزع‏}‏ لأَنها وقت لترجم الظنون وتعرض الحوادث، فأما وقت ذبح الموت ووقوع الطبق فوقت قد حصل فيه أهل الجنة في الجنة فذلك فزع بين إلا أنه لا يصيب أحداً من أهل الجنة فضلاً عن الانبياء، اللهم إلا أن يريد لا يحزنهم الشيء الذي هو عند أهل النار فزع أكبر، فأما إن كان فزعاً للجميع فلا بد مما قلنا من أنه قبل دخول الجنة وقد ذهب بعض الناس إلى أن قوله تعالى ‏{‏إن الذين سبقت لهم منا الحسنى‏}‏ يعم كل مؤمن‏.‏

وروي عن علي بن طالب رضي الله عنه أنه قال عثمان منهم ع ولا مرية أنها مع نزولها في خصوص مقصود تتناول كل من سعد في الآخرة وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتتلقاهم الملائكة‏}‏ يريد بالسلام عليهم والتبشير لهم، أي هذا يومكم الذي وعدتم فيه الثواب والنعيم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏104- 105‏]‏

‏{‏يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ‏(‏104‏)‏ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ‏(‏105‏)‏‏}‏

قرأت فرقة «نطوي» بنون العظمة، وقرأت فرقة «يَطوي السماء» بياء مفتوحة على معنى يطوي الله تعالى، وقرأ فرقة «تُطوى السماءُ» بتاء مضمومة ورفع «السماءُ» على ما لم يسم فاعله، واختلف الناس في ‏{‏السجل‏}‏ فقالت فرقة هو ملك يطوي الصحف، وقالت فرقة ‏{‏السجل‏}‏ رجل كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، ع وهذا كله وما شاكله ضعيف، وقالت فرقة ‏{‏السجل‏}‏ الصحيفة التي يكتب فيها، والمعنى ‏{‏كطي السجل‏}‏ أي كما يطوي السجل من أجل الكتاب الذي فيه، فالمصدر مضاف إلى المفعول ويحتمل أن يكون المصدر مضافاً إلى الفاعل، أي كما يطوي السجل الكتاب الذي فيه، فكأنه قال ‏{‏يوم نطوي السماء‏}‏ كالهيئة التي فيها طي السجل للكتاب، ففي التشبيه تجوز، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «السّجْل» بشد السين وسكون الجيم وتخفيف اللام وفتح أبو السمال السين فقرأ «السَّجل» وقرأ أبو زرعة بن عمرو بن جرير «السُّجُل» بضم السين وشدها وضم الجيم، وقرأ الجمهور «للكتاب»، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم «للكتب» وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كما بدأنا أول خلق نعيده‏}‏ يحتمل معنيين‏:‏ أحدهما أن يكون خبراً عن البعث أي كما اخترعنا الخلق أولاً على غير مثال ذلك كذلك ننشئهم تارة أخرى فنبعثهم من القبور، والثاني أن يكون خبراً عن أن كل شخص يبعث يوم القيامة على هيئته التي خرج بها إلى الدنيا، ويؤيد هذا التأويل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ «يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً كما بدأنا أول خلق نعيده» وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كما بدأنا‏}‏ الكاف متعلقة بقوله ‏{‏نعيده‏}‏، وقوله ‏{‏إنا كنا فاعلين‏}‏ تأكيد للأمر بمعنى أن الأمر واجب في ذلك، وقالت فرقة ‏{‏الزبور‏}‏ اسم يعم جميع الكتب المنزلة لأنه مأخوذ من زبرت الكتاب اذا كتبته، قالت هذه الفرقة و‏{‏الذكر‏}‏ أراد به اللوح المحفوظ، وقال بعضهم ‏{‏الذكر‏}‏ الذي في السماء، وقالت فرقة ‏{‏الزبور‏}‏ هو اسم زبور داود، و‏{‏الذكر‏}‏ أراد به التوارة، وقالت فرقة ‏{‏الزبور‏}‏ ما بعد التوارة من الكتب، و‏{‏الذكر‏}‏ التوراة، وقرأ حمزة وحده «الزُّبور» بضم الزاي، وقالت فرقة ‏{‏الأرض‏}‏ أراد بها أرض الدنيا أي كل ما يناله المؤمنون من الأرض، وقالت فرقة أراد أرض الجنة، واستشهدت بقوله تعالى ‏{‏وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 74‏]‏ وقالت فرقة إنما أراد بهذه الآية الإخبار عما كان صنعه مع بني إسرائيل أي فاعلموا أنا كما وفينا لهم بما وعدناهم فكذلك ننجز لكم ما وعدناكم من النصرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏106- 109‏]‏

‏{‏إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ ‏(‏106‏)‏ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ‏(‏107‏)‏ قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏108‏)‏ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آَذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ ‏(‏109‏)‏‏}‏

قالت فرقة الإشارة بقوله ‏{‏في هذا‏}‏ إلى هذه الأبيات المتقدمة، وقالت فرقة الإشارة إلى القرآن بجملته، و«العبادة» تتضمن الإيمان بالله تعالى، وقوله ‏{‏إلا رحمة للعالمين‏}‏ قالت فرقة عم العالمين وهو يريد من آمن فقط، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس برحمة على من كفر به ومات على الكفر، وقالت فرقة «العالمون» عام ورحمته للمؤمنين بينة وهي للكافرين بأن الله تعالى رفع عن الأمم أن يصيبهم ما كان يصيب القرون قبلهم من أنواع العذاب المتسأصلة كالطوفان وغيره‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويحتمل الكلام أن يكون معناه «وما أرسلنك للعالمين إلا رحمة» أي هو رحمة في نفسه وهذا بين أخذ من أخذ، وأعرض عنه من أعرض، وقوله تعالى ‏{‏آذنتكم على سواء‏}‏ معناه عرفتكم بنذارتي وأردت أن تشاركوني في معرفة ما عندي من الخوف عليكم من الله تعالى، ثم أعلمهم بأنه لا يعرف تعيين وقت لعقابهم بل هو مترقب في القرب والبعد وهذا أهول وأخوف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏110- 112‏]‏

‏{‏إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ ‏(‏110‏)‏ وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ‏(‏111‏)‏ قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ‏(‏112‏)‏‏}‏

الضمير في قوله ‏{‏إنه‏}‏ عائد على الله عز وجل، وفي هذه الآية تهديد أي يعلم جميع الأشياء الواقعة منكم وهو بالمرصاد في الجزاء عليها، وقرأ يحيى بن عامر «وإن أدريَ لعله وإن أدريَ أقريب» بفتح الياء فيهما وأنكر ابن مجاهد فتح هذه الياء ووجهه أبو الفتح، قوله ‏{‏لعله‏}‏ الضمير فيه عائد على الإملاء لهم وصفح الله تعالى عن عذابهم وتمادي النعمة عليهم، و‏{‏فتنة‏}‏ معناه امتحان وابتلاء، و«المتاع»، ما يستمتع به مدة الحياة الدنيا، ثم أمره تعالى أن يقول على جهة الدعاء ‏{‏رب احكم بالحق‏}‏ والدعاء هنا بهذا فيه توعد، أي إن الحق إنما هو في نصرتي عليكم، وأمر الله تعالى بهذا الدعاء دليل على الإجابة والعدة بها، وقرأت فقر «رب احكم» وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «ربُّ» بالرفع على المنادى المفرد وقرأت فرقة «ربي أحْكَمُ» على وزن أفعل وذلك على الابتداء والخبر، وقرأت فرقة «ربي أحْكَمُ» على وزن أنه فعل ماض، ومعاني هذه القراءات بينة، ثم توكل في آخر الآية واستعان بالله تعالى، وقرأ جمهور القراء «قل رب» وقرأ عاصم فيما روي عنه «قال رب» وقرأ ابن عامر وحده «يصفون» بالياء، وقرأ الباقون والناس «تصفون» بالتاء من فوق على المخاطبة‏.‏

سورة الحج

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ‏(‏1‏)‏ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ‏(‏2‏)‏‏}‏

صدر الآية تحذير بجميع العالم ثم أوجب الخبر وأكده بأمر ‏{‏زلزلة‏}‏ القيامة وهي إحدى شرائطها وسماها «شيئاً» إما لأنها حاصلة متيقن وقوعها فيستسهل لذلك أن تسمى شيئاً‏.‏

وهي معدومة إذا اليقين بها يشبهها بالموجودات وأما على المآل أي هي أذا وقعت شيء عظيم فكأنه لم يطلق الاسم الآن بل المعنى أنها كانت فهي حينئذ شيء عظيم، والزلزلة التحريك العنيف وذلك مع نفخة الفزع ومع نفحة الصعق حسبما تضمن حديث أبي هريرة من ثلاث نفخات ومن لفظ الزلزلة قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الخفيف‏]‏

يعرف الجاهل المضلل أن *** الدهر فيه النكراء والزلزال

فيحتمل أن تكون «الزلزلة» في الآية عبارة عن أهوال يوم القيامة كما قال تعالى ‏{‏مستهم البأساء والضراء وزلزوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 214‏]‏ وكما قال عليه السلام «اللهم اهزمهم وزلزلهم»، والجمهور على أن ‏{‏زلزلة الساعة‏}‏ هي كالمعهودة في الدنيا إلا أنها في غاية الشدة، واختلف المفسرون في «الزلزلة» المذكورة هل هي في الدنيا على القوم الذين تقوم عليهم القيامة، أم هي في يوم القيامة على جميع العالم‏؟‏ فقال الجمهور هي في الدنيا والضمير في ‏{‏ترونها‏}‏ عائد عندهم على الزلزلة وقوى قولهم إن الرضاع والحمل إنما هو في الدنيا، وقالت فرقة «الزلزلة» في القيامة واحتجت بحديث أنس المذكور آنفاً إذ قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية ثم قال «إنه اليوم الذي يقول الله تعالى فيه لآدم أخرج بعث النار» ع وهذا الحديث لا حجة فيه لأنه يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ الآية المتضمنة ابتداء أمر الساعة ثم قصد في تذكيره وتخويفه إلى فصل من فصول يوم القيامة فنص ذكره وهذا من الفصاحة، والضمير عند هذه الفرقة عائد على ‏{‏الساعة‏}‏ أي يوم يرون ابتداءها في الدنيا، فيصح لهم بهذا التأويل أن لا يلزمهم وجود الرضاع والحمل في يوم القيامة ولو أعادوه على الزلزلة فسد قولهم بما يلزمهم، على أن النقاش ذكر أن المراد ب ‏{‏كل ذات حمل‏}‏ من مات من الإناث وولدها في جوفها‏.‏ ع وهذا ضعيف و«الذهول» الغفلة عن الشيء بطريان ما يشغل عنه من هم أو وجع أو غيره وقال ابن زيد المعنى تترك ولدها للكرب الذي نزل بها، وقرأ ابن أبي عبلة «تُذهِل» بضم التاء وكسر الهاء ونصب «كلَّ» وألحق الهاء في «مرضع» لأنه أراد فاعلات ذلك في ذلك اليوم فأجراه على الفعل وأما إذا أخبرت عن المرأة بأن لها طفلاً ترضعه فإنما تقول مرضع مثل حامل قال علي بن سليمان هذه الهاء في ‏{‏مرضعة‏}‏ ترد على الكوفيين قولهم إن الهاء لا تكون فيما لا تلبس له بالرجال، وحكى الطبري أن بعض نحويي الكوفة قال أم الصبي مرضعة، ‏{‏وترى الناس سكارى‏}‏ تشبيه لهم، أي من الهم، ثم نفى عنهم السكر الحقيقي الذي هو من الخمر قال الحسن وغيره، وقرأ جمهور القراء «سُكارى» بضم السين وثبوت الألف وكذلك في الثاني وهذا هو الباب فمرة جعله سيبويه جمعاً ومرة جعله اسم جمع، وقرأ أبو هريرة بفتح السين فيهما وهذا أيضاً قد يجيء في هذه الجموع قال أبو الفتح هو تكسير، وقال أبو حاتم هي لغة تميم، وقرأ حمزة والكسائي «سكرى» في الموضعين، ورواه عمران بن حصين وأبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهي قراءة ابن مسعود وحذيفة وأصحاب عبدالله، قال سيبويه وقوم يقولون «سكرى» جعلوه مثل مرضى لأنهما شيئان يدخلان على الإنسان، ثم جعلوا روبى مثل سكرى وهو المستثقلون نوماً من شرب الرائب، قال أبو علي ويصح أن يكون «سكرى» جمع سكر كزمن وزمنى وقد حكى سيبويه رجل سكر بمعنى سكران فتجيء «سكرى» حينئذ لتأنيث الجمع كعلامة في طائفة لتأنيث الجمع، وقرأ سعيد بن جبير «وترى الناس سكرى وما هم بسُكارى» بالضم والألف، وحكى المهدوي عن الحسن أنه قرأ الناس «سكارى وما هم بسكرى»، وقرأ الحسن والأعرج وأبو زرعة بن عمرو بن جرير في الموضعين «سُكرى» بضم السين، قال أبو الفتح هو اسم مفرد كالبشرى وبهذا أفتاني أبو علي وقد سألته عن هذا، وقرأ أبو زرعة بن عمرو بن جريروأبو هريرة وأبو نهيك «وتُرى» بضم التاء «الناسَ» بالنصب قال وإنما هي محسبة، ورويت هذه القراءة «تُرى الناسُ» بضم التاء والسين أي ترى جماعة الناس‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏3- 10‏]‏

‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ ‏(‏3‏)‏ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ‏(‏4‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ‏(‏5‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏6‏)‏ وَأَنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ ‏(‏7‏)‏ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ ‏(‏8‏)‏ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ ‏(‏9‏)‏ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً‏}‏

قوله تعالى ‏{‏ومن الناس‏}‏ الآية، قال ابن جريح نزلت في النضر بن الحارث وأبي بن خلف وقيل في أبي جهل بن هشام ثم هي بعد تتناول كل من اتصف بهذه الصفة، و«المجادلة» المحاجة والموادة مؤخوذة من الجدل وهو الفتل والمعنى في قدرة الله تعالى وصفاته، وكان سبب الآية كلام من ذكر وغيرهم في أن الله تعالى لا يبعث الموتى ولايقيم الأجساد من القبور، و«الشيطان» هنا هو مغويهم من الجن ويحتمل أن يكون الشيطان من الإنس والإنحاء على متبعيه و«المريد» المتجرد من الخير للشر ومنه الأمرد، وشجرة مردى أي عارية من الورق، وصرح ممرد أي مملس من زجاج، وصخرة مرداء أي ملساء‏.‏ والضمير في ‏{‏عليه‏}‏ عائد على الشيطان قاله قتادة ويحتمل أن يعود على المجادل و‏{‏أنه‏}‏ في موضع رفع على المفعول الذي لم يسم فاعله و‏{‏أنه‏}‏ الثانية عطف على الأولى مؤكدة مثلها وقيل هي مكررة للتأكيد فقط وهذا معترض بأن الشيء لا يؤكد إلا بعد تمامه وتمام «أن» الأولى إنما هو بصلتها في قوله ‏{‏السعير‏}‏ وكذلك لا يعطف ولسيبويه في مثل هذا ‏{‏أنه‏}‏ بدل، وقيل ‏{‏أنه‏}‏ خبر ابتداء محذوف تقديره فشأنه أنه يضله وقدره أبو علي فله أن يضله‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويظهر لي أن الضمير في ‏{‏أنه‏}‏ الأولى للشيطان وفي الثانية لمن الذي هو المتولي، وقوله ‏{‏يهديه‏}‏ بمعنى يدله على طريق ذلك وليست بمعنى الإرشاد على الإطلاق، وقرأ أبو عمرو «إنه من تولاه فإنه يضله» بالكسر فيهما، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث‏}‏ الآية هذه احتجاج على العالم بالبداءة الأولى وضرب الله تعالى في هذه الآية مثلين إذا اعتبرهما الناظر جوز في العقل البعثة من القبور، ثم ورد خبر الشرع بوجوب ذلك ووقوعه، و«الريب» الشك، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن كنتم‏}‏ شرط مضمنه التوفيق، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «البعَث» بفتح العين وهي لغة في البعث عند البصريين وهي عند الكوفيين تخفيف بعث وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإنا خلقناكم من تراب‏}‏ يريد آدم ثم سلط الفعل عليهم من حيث هم من ذريته، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم من نطفة‏}‏ يريد المنى الذي يكون من البشر، و«النطفة» تقع على قليل الماء وكثيره، وقال النقاش المراد ‏{‏نطفة‏}‏ آدم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم من علقة‏}‏، يريد من الدم تعود النطفة إليه في الرحم أو المقارن للنطفة، والعلق، الدم العبيط وقيل العلق، الشديد الحمرة فسمي الدم لذلك، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم من مضغة‏}‏ يريد بضعة لحم على قدر ما يمضغ، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مخلقة‏}‏ معناه متممة البنية، ‏{‏وغير مخلقة‏}‏ غير متممة أي التي تستسقط قاله مجاهد وقتادة والشعبي وأبو العالية فاللفظة بناء مبالغة من خلق ولما كان الإنسان فيه أعضاء متباينة وكل واحد منها مختص بخلق حسن في جملته تضعيف الفعل لأن فيه خلقاً كثيرة، وقرأ ابن أبي عبلة «مخلقةً» بالنصب «وغيرَ» بالنصب في الراء ويتصل بهذا الموضوع من الفقه أن العلماء اختلفوا في أم الولد اذا أسقطت مضغة لم تصور هل تكون أم ولد بذلك فقال مالك والأوزاعي وغيرهما‏:‏ هي أم ولد بالمضغة إذا علم أنها مضغة الولد، وقال الشافعي وأبو حنيفة‏:‏ لا حتى يتبين فيه خلق ولو عضو واحد، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لنبين‏}‏ قالت فرقة معناه لنبين أمر البعث فهو اعتراض بين الكلامين، وقرأت هذه الفرقة بالرفع في «نقرُّ»، المعنى ونحن نقر وهي قراءة الجمهور، وقالت فرقة ‏{‏لنبين‏}‏ معناه بكون المضغة غير مخلقة وطرح النساء إياها كذلك نبين للناس أن المناقل في الرحم هي هكذا، وقرأت هذه الفرقة «ونقرَّ» بالنصب وكذلك قرأت «ونخرجَكم» بالنصب وهي رواية المفضل عن عاصم، وحكى أبو عمرو الداني أن رواية المفضل هذه هي بالياء في «يقر» وفي «يخرجكم» والرفع على هذا التأويل سائغ ولا يجوز النصب على التأويل الأول، وقرأ ابن وثاب «ما نِشاء» بكسر النون، و«الأجل المسمى» هو مختلف بحسب جنين جنين فثم من يسقط وثم من يكمل أمره ويخرج حياً، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏طفلاً‏}‏ اسم الجنس أي أطفالاً، واختلف الناس في «الأشد» من ثمانية عشر إلى ثلاثين، إلى اثنين وثلاثين، إلى ستة وثلاثين، إلى أربعين، إلى خمسة وأربعين، واللفظ تقال بإشتراك، فأشد الانسان على العموم غير أشد اليتيم الذي هو الاحتلام، و«الأشد» في هذه الآية يحتمل المعنيين، والرد إلى أرذل العمر هو حصول الإنسان في زمانه واختلال قوة حتى لا يقدر على إقامة الطاعات واختلال عقل حتى لا يقدر على إقامة ما يلزمه من المعتقدات، وهذا أبداً يلحق مع الكبر وقد يكون ‏{‏أرذل العمر‏}‏ في قليل من السن بحسب شخص ما لحقته زمانة وقد ذكر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ‏{‏أرذل العمر‏}‏ خمسة وسبعون وهذا فيه نظر وإن صح عن علي رضي الله عنه فلا يتوجه إلا أن يريد على الأكثر فقد نرى كثيراً أبناء ثمانين سنة ليسوا في أرذل العمر، وقرأ الجمهور «العمر» مشبعة وقرأ نافع «العمر» مخففة الميم واختلف عنه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لكيلا يعلم‏}‏ أي لينسى معارفه وعلمه الذي كان معه فلا يعلم من ذلك شيئاً فهذا مثال واحد يقضي للمعتبر به أن القادر على هذه المناقل المتقن لها قادر على إعادة تلك الأجساد التي أوجدها بهذه المناقل إلى حالها الأولى‏.‏

‏{‏وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ ومِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ‏}‏

هذا هو المثال الثاني الذي يعطي للمعتبر فيه جواز بعد الإجساد وذلك أن إحياء الأرض بعد موتها بين فكذلك الأجساد، و‏{‏هامدة‏}‏ معناه ساكنة دارسة بالية ومنه قيل همد الثوب إذا بلي، قال الأعشى‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

قالت قتيلة ما لجسمك شاحباً *** وأرى ثيابك باليات همدا

واهتزاز الأرض هو حركتها بالنبات وغير ذلك مما يعتريها بالماء، ‏{‏وربت‏}‏ معناه نشزت وارتفعت ومنه الربوة وهو المكان المرتفع، وقرأ جعفر بن القعقاع «وربأت» بالهمز، ورويت عن أبي عمرو وقرأها عبد الله بن جعفر وخالد بن إلياس وهي غير وجيهة ووجهها أن تكون من ربأت القوم إذا علوت شرفاً من الأرض طليعة فكأن الأرض بالماء تتطاول وتعلو، و«الزوج» النوع، و«البهيج» فعيل من البهجة وهي الحسن قاله وقتادة وغيره‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى كون ما تقدم ذكر ف ‏{‏ذلك‏}‏ ابتداء، وخبره ‏{‏بأن‏}‏ أي هو ‏{‏بأن الله‏}‏ تعالى ‏{‏حق‏}‏ محيي قادر وقوله ‏{‏وأن الساعة آتية‏}‏ ليس بسبب لما ذكر لكن المعنى أن الأمر مرتبط بعضه ببعض أو على تقدير‏:‏ والأمر أن الساعة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الناس‏}‏ الآية، الإشارة بقوله ‏{‏ومن الناس‏}‏ إلى القوم المتقدم ذكرهم، وحكى النقاش عن محمد بن كعب أنه قال نزلت الآية في الأخنس بن شريق وكرر هذه على جهة التوبيخ فكأنه يقول فهذه الأمثال في غاية الوضوح والبيان ‏{‏ومن الناس‏}‏ مع ذلك ‏{‏من يجادل‏}‏ فكأن الواو واو الحال والآية المتقدمة الواو فيها واو عطف جملة الكلام على ما قبلها، والآية على معنى الإخبار وهي ها هنا مكررة للتوبيخ، و‏{‏ثاني‏}‏ حال من ضمير في ‏{‏يجادل‏}‏ ولا يجوز أن تكون من ‏{‏من‏}‏ لأنها ابتداء والابتداء إنما عمله الرفع لا النصب وإضافة ‏{‏ثاني‏}‏ غير معتد بها لأنها في معنى الانفصال إذ تقديرها ثانياً عطفه، وقوله ‏{‏ثاني عطفه‏}‏ عبارة عن المتكبر المعرض قاله ابن عباس وغيره، ع‏:‏ وذلك أن صاحب الكبر يرد وجهه عما يتكبر عنه فهو يرد وجهه يصعر خده ويولي صفحته ويلوي عنقه ويثني عطفه وهذه هي عبارات المفسرين، والعطف الجانب وقرأ الحسن «عَطفه» بفتح العين والعطف السيف لأن صاحبه يتعطفه أي يصله بجنبه، وقرأ الجمهور «لُيضل» بضم الياء، وقرأ مجاهد وأهل مكة بفتح الياء، وكذلك قرأ أبو عمرو، و«الخزي» الذي توعد به النضر بن الحارث في أسره يوم بدر وقتله بالصفراء، و«الحريق» طبقة من طبقات جهنم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك بما قدمت يداك‏}‏ بمعنى قال له ونسب التقديم إلى اليدين إذ هما آلتا الاكتساب واختلف في الوقف على قوله ‏{‏يداك‏}‏ فقيل لا يجوز لأن التقدير‏:‏ وبأن الله أي ‏{‏وأن الله‏}‏ هو العدل فيك بجرائمك وقيل يجوز بمعنى والأمر أن الله تعالى ‏{‏ليس بظلام‏}‏ و«العبيد» هنا ذكروا في معنى مكسنتهم وقلة قدرتهم فلذلك جاءت هذه الصيغة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 13‏]‏

‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ‏(‏11‏)‏ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ ‏(‏12‏)‏ يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ ‏(‏13‏)‏‏}‏

هذه الآية نزلت في أعراب وقوم لا يقين لهم كان أحدهم اذا أسلم فاتفق له اتفاقات حسان من نمو ماله وولد ذكر يرزقه وغير ذلك قال هذا دين جيد وتمسك به لهذه المعاني، وإن كان الأمر بخلاف، تشاءم به وارتد كما صنع العرنيون وغيرهم، قال هذا المعنى ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏على حرف‏}‏ معناه على انحراف منه عن العقيدة البيضاء او على شفى منها معدى للزهوق، و«الفتنة»‏:‏ الاختبار، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏انقلب على وجهه‏}‏ عبارة للمولي عن الأمور وخسارته ‏{‏الدنيا والآخرة‏}‏، أما ‏{‏الدنيا‏}‏ فبالمقادير التي جرت عليه، وأما ‏{‏الآخرة‏}‏ فبارتداده وسوء معتقده، وقرأ مجاهد وحميد والأعرج «خاسراً الدنيا والآخرة» نصباً على الحال، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما لا يضره‏}‏ يريد الأوثان، ومعنى ‏{‏يدعو‏}‏ يعبد، ويدعو أيضاً في ملماته، واختلف الناس في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يدعو لمن ضره‏}‏ فقالت فرقة من الكوفيين اللام مقدمة على موضعها وإنما التقدير «يدعو من لضره»، ويؤيد هذا التأويل أن عبدالله بن مسعود قرأ «يدعو من ضره» وقال الأخفش ‏{‏يدعو‏}‏ بمعنى يقول، و‏{‏من‏}‏ مبتدأ و‏{‏ضره‏}‏ مبتدأ، و‏{‏أقرب‏}‏ خبره، والجملة صلة، وخبر ‏{‏من‏}‏ محذوف والتقدير يقول لمن ضره أقرب منه نفعه إله وشبه هذا، يقول عنترة‏:‏ «يدعون عنتر والرماح كأنها» ع وهذا القول فيه نظر فتأمل إفساده للمعنى إذ لم يعتقد الكافر قط أن ضر الأوثان أقرب من نفعها واعتذار أبي علي هنا مموه، وأيضاً فهو لا يشبه البيت الذي استشهد به، وقيل المعنى في ‏{‏يدعو‏}‏ يسمى، وهذا كالقول الذي قبله، إلا أن المحذوف آخراً مفعول تقديره إلهاً، وقال الزجاج يجوز أن يكون ‏{‏يدعو‏}‏ في موضع الحال وفيه هاء محذوفة والتقدير ذلك هوالضلال البعيد يدعو أو يدعوه، فيوقف على هذا، قال أبو علي ويحسن أن يكون ذلك بمعنى الذي، أي الذي هو الضلال البعيد ‏{‏يدعو‏}‏ فيكون قوله ذلك موصلاً بقوله ‏{‏ذلك هو الضلال البعيد‏}‏ ويكون ‏{‏يدعو‏}‏ عاملاً في قوله ‏{‏ذلك‏}‏ ع كون ‏{‏ذلك‏}‏ بمعنى الذي غير سهل وشبهه المهدوي بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما تلك بيمينك يا موسى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 17‏]‏ وقد يظهر في الآية أن يكون قوله ‏{‏يدعو‏}‏ متصلاً بما قبله، ويكون فيه معنى التوبيخ كأنه قال ‏{‏يدعو‏}‏ من لا يضر ولا ينفع‏.‏ ثم كرر ‏{‏يدعو‏}‏ على جهة التوبيخ غير معدى إذ عدي أول الكلام ثم ابتدأ الإخبار بقوله ‏{‏لمن ضره‏}‏ واللام مؤذنة بمجيء القسم والثانية التي في ‏{‏لبئس‏}‏ لام القسم وإن كان أبو علي مال إلى أنها لام الابتداء والثانية لام اليمين، ويظهر أيضاً في الآية أن يكون المراد يدعو من ضره ثم علق الفعل باللام وصح أن يقدر هذا الفعل من الأفعال التي تعلق وهي أفعال النفس كظننت وخشيت، وأشار أبو علي إلى هذا ورد عليه، و‏{‏العشير‏}‏ القريب المعاشر في الأمور، وذهب الطبري إلى أن المراد بالمولى والعشير هو الإنسان الذي يعبد الله على حرف ويدعو الأصنام، والظاهر أن المراد ب ‏{‏المولى‏}‏ و‏{‏العشير‏}‏ هو الوثن الذي ضره أقرب من نفعه، وهو قول مجاهد والله أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 17‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ‏(‏14‏)‏ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ ‏(‏15‏)‏ وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ ‏(‏16‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ‏(‏17‏)‏‏}‏

لما ذكر تبارك وتعالى حالة من يعبده ‏{‏على حرف‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 11‏]‏ وسفه رأيهم وتوعدهم بخسارة الآخرة عقب ذلك بذكر مخالفيهم من أهل الإيمان وذكر ما وعدهم به من إدخاله إياهم الجنة، ثم أخذت الآية في توبيخ أولئك الأولين وإسلامهم إلى رأيهم، وإحالتهم على ما فيه عنتهم وليس فيه راحتهم كأنه يقول هؤلاء العابدون على حرف صحبهم القلق وظنوا أن الله تبارك وتعالى لن ينصر محمداً وأتباعه ونحن إنما أمرناهم بالصبر وانتظار وعدنا فمن ظن غير ذلك، ‏{‏فليمدد بسبب‏}‏ وليختنق ولينظر هل يذهب بذلك غيظه، قال هذا المعنى قتادة وهذا على جهة المثل السائر قولهم دونك الحبل فاختنق، يقال ذلك للذي يريد من الأمر ما لا يمكنه، و«السبب» الحبل، و«النصر» معروف، إلا أن أبا عبيدة ذهب به إلى معنى الرزق كما قالوا أرض منصورة أي ممطورة وكما قال الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

وإنك لا تعطي امرأً فوق حقه *** ولا تملك الشق الذي الغيث ناصره

وقال‏:‏ وقف بنا سائل من بني أبي بكر فقال من ينصرني ينصره الله، و‏{‏السماء‏}‏ على هذه الأقوال الهواء علواً فكأنه أراد سقفاً أو شجرة أو نحوه وقال ابن يزيد ‏{‏السماء‏}‏ هي المعروفة، وذهب إلى معنى آخر كأنه قيل لمن يظن أن الله تعالى لا ينصر محمداً إن كنت تظن ذلك فامدد ‏{‏بسبب إلى السماء‏}‏ واقطعه إن كنت تقدر على ذلك فإن عجزت فكذلك لا تقدر على قطع سبب محمد صلى الله عليه وسلم إذ نصرته من هنالك والوحي الذي يأتيه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ و«القطع» على هذا التأويل ليس بالاختناق بل هو جزم السبب، وفي مصحف ابن مسعود «ثم ليقطعه» بهاء، والجمهور على أن القطع هنا هو الاختناق، وقال الخليل‏:‏ وقطع الرجل إذا اختنق بحبل أو نحوه ثم ذكر الآية، وتحتمل الآية معنى آخر وهو أن يراد به الكفار وكل من يغتاظ بأن ينصره الله ويطمع أن لا ينصر قيل له من ظن أن هذا لا ينصر فليمت كمداً هو منصور لا محالة فليختنق هذا الظان غيظاً وكمداً ويؤيد هذا أن الطبري والنقاش قالا‏:‏ ويقال نزلت في نفر من بني أسد وغطفان قالوا نخاف أن ينصر محمد فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من يهود من المنافع، والمعنى الأول الذي قيل فيه للعابدين ‏{‏على حرف‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 11‏]‏ ليس بهذا ولكنه بمعنى من قلق واستبطأ النصر وظن أن محمداً لا ينصر فليختنق سفاهة إذ تعدى الأمر الذي حد له في الصبر وانتظار صنع الله، وقال مجاهد‏:‏ الضمير في ‏{‏ينصره‏}‏ عائد على ‏{‏من‏}‏ والمعنى من كان من المتقلقين من المؤمنين‏.‏

ع والضمير في التأويل الذي ذكرناه في أن يراد الكفار لا يعود إلا على النبي صلى الله عليه وسلم فقط، وقالت فرقة‏:‏ الضمير عائد على الدين والقرآن، وقرأ أبو عمرو وابن عامر «لِيقطع فلِينظر» بكسر اللام فيهما على الأصل وهي قراءة الجمهور، وقرأ عاصم والحمزة والكسائي بسكون اللام فيهما في لام الأمر في كل القرآن مع الواو والفاء و«ثم»، واختلف عن نافع وهي قراءة الحسن وأبي عمرو وعيسى، ع أما الواو والفاء إذا دخلا على الأمر فحكى سيبويه أنهم يرونها كأنها من الكلمة، فسكون اللام تخفيف وهو أفصح من تحريكها، وأما «ثم» فهي كلمة مستقلة فالوجه تحريك اللام بعدها ع وقد رأى بعض النحويين الميم من «ثم» بمنزلة الواو والفاء، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما يغيظ‏}‏ يحتمل أن تكون ‏{‏ما‏}‏ بمعنى الذي، وفي ‏{‏يغيظ‏}‏ عائد عليها، ويحتمل أن تكون مصدرية حرفاً فلا عائد عليها، و«الكيد» هو مده السبب ع وأبين وجوه هذه الآية أن تكون مثلاً ويكون «النصر» المعروف و«القطع» الاختناق و‏{‏السماء‏}‏ الارتفاع في الهواء بسقف أو شجرة ونحوه فتأمله، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك أنزلناه‏}‏ إلى ‏{‏شهيد‏}‏ المعنى وكما وعدنا بالنصر وأمرنا بالصبر كذلك أنزلنا القرآن آية بينة لمن نظر واهتدى لا ليقترح معها ويستعجل القدر، وقال الطبري‏:‏ المعنى وكما بينت حجتي على من جحد قدرتي على إحياء الموتى ‏{‏كذلك أنزلناه‏}‏ والضمير في ‏{‏أنزلناه‏}‏ عائد على القرآن، وجاءت هذه الضمائر هكذا لم يتقدم ذكر لشهرة المشار إليه نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى توارت بالحجاب‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 32‏]‏ وغيره، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن‏}‏ في موضع خير الابتداء والتقدير والأمر أن الله يهدي من يريد، وهداية الله تعالى هي خلقه الرشاد والإيمان في نفس الإنسان، ثم أخبر الله تعالى عن فعله بالفرق المذكورين وهم المؤمنون بمحمد عليه السلام وغيره، واليهود والصابئون وهم قوم يعبدون الملائكة ويستقبلون القبلة ويوحدون الله ويقرؤون الزبور قاله قتادة ‏{‏والنصارى والمجوس‏}‏ وهم عبدة النار والشمس والقمر، والمشركون وهم عبدة الأوثان، قال قتادة الأديان ستة، خمسة للشيطان وواحد للرحمن وخبر ‏{‏إن‏}‏ قوله تعالى الله ‏{‏يفضل بينهم‏}‏، ثم دخلت ‏{‏إن‏}‏ على الخبر مؤكدة وحسن ذلك لطول الكلام فهي وما بعدها خبر ‏{‏إن‏}‏ الأولى، وقرن الزجاج هذه الآية‏.‏ بقول الشاعر‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

إن الخليفة ان الله سربله *** سربال ملك به ترجى الخواتيم

نقله من الطبري ع وليس هذا البيت كالآية لأن الخبر في البيت في قوله ترجى الخواتيم وإن الثانية وجملتها معترضة بين الكلامين، ثم تم الكلام كله في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏القيامة‏}‏ واستأنف الخبر عن ‏{‏إن الله على كل شيء شهيد‏}‏ عالم به وهذا خبر مستأنف للفصل بين الفرق وفصل الله تعالى بين هذه الفرق هو إدخال المؤمنين الجنة والكافرين النار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 22‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ‏(‏18‏)‏ هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ ‏(‏19‏)‏ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ‏(‏20‏)‏ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ ‏(‏21‏)‏ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏ألم تر‏}‏ تنبيه رؤية القلب، وهذه آية إعلام بتسليم المخلوقات جمع لله وخضوعها، وذكر في الآية كل ما عبد الناس إذ في المخلوقات أعظم مما قد ذكر كالرياح والهواء ف ‏{‏من في السماوات‏}‏ الملائكة، ‏{‏ومن في الأرض‏}‏ من عبد من الشر، ‏{‏والشمس‏}‏ كانت تعبدها حمير وهو قوم بلقيس، والقمر كانت كنانة تعبده قاله ابن عباس، وكانت تميم تعبد الدبران، وكانت لخم تعبد المشتري، وكانت طيِّئ تعبد الثريا وكانت قريش تعبد الشعري، وكانت أسد تعبد عطارد، وكانت ربيعة تعبد المرزم، ‏{‏والجبال والشجر‏}‏ منها النار وأصنام الحجارة والخشب، ‏{‏والدواب‏}‏ فيها البقر وغير ذلك مما عبد من الحيوان كالديك ونحوه، و«السجود» في هذه الآية هو بالخضوع والانقياد للأمر قال الشاعر «ترى الأكم فيه سجداً للحوافر»‏.‏ وهذا مما يتعذر فيه السجود والمتعارف، وقال مجاهد‏:‏ سجود هذه الأشياء هو بظلالها، وقال بعضهم سجودها هو بظهور الصنعة فيها‏.‏ ع‏:‏ هذا وهو وإنما خلط هذه الآية بآية التسبيح وهناك يحتمل أن يقال هي بآثار الصنعة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكثير حق عليه العذاب‏}‏ يحتمل أن يكون معطوفاً على ما تقدم، أي ‏{‏وكثير حق عليه العذاب‏}‏ يسجد، أي كراهية وعلى رغمه إما بظله وإما بخضوعه عند المكارة ونحو ذلك، قاله مجاهد، وقال‏:‏ سجوده بظله ويحتمل أن يكون رفعاً بالابتداء مقطوعاً مما قبله وكأن الجملة معادلة لقوله ‏{‏وكثير من الناس‏}‏ لأن المعنى أنهم مرحومون بسجودهم ويؤيد هذا قوله تعالى بعد ذلك ‏{‏ومن يهن الله‏}‏ الآية وقرأ جمهور الناس «من مكرِم» بكسر الراء، وقرأ ابن أبي عبلة بفتح الراء على معنى من موضع كرامة أو على أنه مصدر كمدخل، وقرأ الجمهور «والدوابّ» مشددة الباء، وقرأ الزهري وحده بتخفيف الباء وهي قليلة ضعيفة وهي تخفيف على غير قياس كما قالوا ظلت وأحست وكما قال علقمة‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

كأن إبريقهم ظبي على شرف *** مفدم بسبا الكتان ملثوم

أراد بسبائب الكتان وأنشد أبو علي في مثله‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

حتى إذا ما لم أجد غير الشر *** كنت أمرأً من مالك بن جعفر

وهذا باب إنما يستعمل في الشعر فلذلك ضعفت هذه القراءة وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذان خصمان‏}‏ الآية، اختلف الناس في المشار إليه بقوله ‏{‏هذان‏}‏ فقال قيس بن عباد وهلال بن يساف‏:‏ نزلت هذه الآية في المتبارزين يوم بدر وهو ستة‏:‏ حمزة، وعلي، وعبيدة بن الحارث، برزوا لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وروي عن علي بن أبي طالب أنه قال‏:‏ أنا أول من يجثو يوم القيامة للخصومة بين يدي الله تعالى، وأقسم أبو ذر على هذا القول ع ووقع أن الآية فيهم في صحيح البخاري، وقال ابن عباس‏:‏ الإشارة إلى المؤمنين وأهل الكتاب وذلك أنه وقع بينهم تخاصم فقالت اليهود نحن أقوم ديناً منكم ونحو هذا، فنزلت الآية، وقال عكرمة‏:‏ المخاصمة بين الجنة والنار، وقال مجاهد وعطاء بن أبي رباح والحسن بن أبي الحسن وعاصم والكلبي‏:‏ الإشارة إلى المؤمنين والكفار على العموم ع وهذا قول تعضده الآية، وذلك أنه تقدم قوله ‏{‏وكثير من الناس‏}‏ المعنى هم مؤمنون ساجدون، ثم قال ‏{‏وكثير حق عليه العذاب‏}‏ ثم أشار الى هذين الصنفين بقوله ‏{‏هذان خضمان‏}‏ والمعنى أن الإيمان وأهله والكفر وأهله خصمان مذ كانا إلى قيام الساعة بالعدواة والجدال والحرب، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏خصمان‏}‏ يريد طائفتين لأن لفظة خصم هي مصدر يوصف به الجمع والواحد ويدل على أنه أراد الجمع قوله ‏{‏اختصموا‏}‏ فإنها قراءة الجمهور، وقرأ ابن أبي عبلة «اختصما في ربهم» وقوله ‏{‏في ربهم‏}‏ معناه في شأن ربهم وصفاته وتوحيده، ويحتمل أن يريد في رضاء ربهم وفي ذاته، ثم بين حكمي الفريقين فتوعد تعالى الكفار بعذاب جهنم، و‏{‏قطعت‏}‏ معناه جعلت لهم بتقدير، كما يفصل الثوب، وروي أنها من نحاس وقيل ليس شيء من الحجارة والفلز أحر منه إذا حمي، وروي في صب ‏{‏الحميم‏}‏ وهو الماء المغلي أنه تضرب رؤوسهم ب «المقامع» فتنكشف أدمغتهم فيصب ‏{‏الحميم‏}‏ حينئذ، وقيل بل يصب أولاً فيفعل ما وصف، ثم تضرب ب «المقامع» بعد ذلك، و‏{‏الحميم‏}‏ الماء المغلي، و‏{‏يصهر‏}‏ معناه يذاب، وقيل معناه يعصر وهذه العبارة قلقة، وقيل معناه ينضج ومنه قول الشاعر «تصهره الشمس ولا ينصهر» وإنما يشبه فيمن قال يعصر‏.‏

أنه أراد الحميم يهبط كل ما يلقى في الجوف ويكشطه ويسلته، وقد روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يسلته ويبلغ به قدميه ويذيبه، ثم يعاد كما كان، وقرأ الجمهور «يصهر» وقرأت فرقة «يصَهّر» بفتح الضاد وشد الهاء، و«المِقمعة» بكسر الميم مقرعة من حديد يقمع بها المضروب، وقوله‏:‏ ‏{‏أرادوا‏}‏ روي فيه أن لهب النار إذا ارتفع رفعهم فيصلون إلى أبواب النار فيريدون الخروج فيضربون ب «المقامع» وتردهم الزبانية و«من» في قوله ‏{‏منها‏}‏ الابتداء الغاية، وفي قوله ‏{‏من غم‏}‏ يحتمل أن تكون لبيان الجنس ويحتمل أن تكون لابتداء غاية أيضاً وهي بدل من الأولى‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وذوقوا‏}‏ هنا محذوف تقديره ويقال لهم‏:‏ ‏{‏ذوقوا‏}‏ و‏{‏الحريق‏}‏ فعيل بمعنى مفعل أي محرق، وقرأ الجمهور «هذان» بتخفيض النون وقرأ ابن كثير وحده «هذانّ» بتشديد النون، وقرأها شبل وهي لغة لبعض العرب في المبهمات، كاللذان، وهذان وقد ذكر ذلك أبو علي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 25‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ‏(‏23‏)‏ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ ‏(‏24‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏25‏)‏‏}‏

هذه الآية معادلة لقوله‏:‏ ‏{‏فالذين كفروا‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 19‏]‏ وقرأ الجمهور «يُحلون» بضم الياء وشد اللام من الحلي، وقرأ ابن عباس «يَحلَون» بفتح الياء واللام وتخفيفها، يقال حلي الرجال وحليت المرأة إذا صارت ذات حلي وقيل هي من قولهم لم يحل فلان بطائل، و‏{‏من‏}‏ في قوله ‏{‏من أساور‏}‏ هي لبيان الجنس ويحتمل أن تكون للتبعيض، و«الأساور» جمع سوار وإسوار بكسر الهمزة، وقيل ‏{‏أساور‏}‏ جمع أسورة وأسورة جمع سوار، وقرأ ابن عباس من «أسورة من ذهب»، و«اللؤلؤ» الجوهر وقيل صغاره وقيل كباره وألأشهر أنه اسم للجوهر، وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر «ولؤلؤاً» بالنصب عطفاً على موضع الأساور لأن التقدير يحلون أساور، وهي قراءة الحسن والجحدري وسلام ويعقوب والأعرج وأبي جعفر وعيسى بن عمر، وحمل أبو الفتح نصبه على إضمار فعل، وقرأ الباقون من السبعة و«لؤلؤٍ» بالخفض عطفاً إما على لفظ الأساور ويكون اللؤلؤ في غير الأساور، وإما على الذهب لأن الأساور أيضاً تكون «من ذهب» و«لؤلؤ» قد جمع بعضه إلى بعض، ورويت هذه القراءة عن الحسن بن أبي الحسن وطلحة وابن وثاب والأعمش وأهل مكة، وثبتت في الإمام ألف بعد الواو قاله الجحدري، وقال الأصمعي‏:‏ ليس فيها ألف، وروى يحيى عن أبي بكر عن عاصم همز الواو الثانية دون الأولى، وروى المعلى بن منصور عن أبي عن عاصم ضد ذلك، قال أبو علي‏:‏ همزهما وتخفيفهما وهمز إحداهما دون الأخرى جائز كله، وقرأ ابن عباس «ولئلئاً» بكسر اللامين، وأخبر عنهم بلباس الحرير لأنها من أكمل حالات الآخرة، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة» وقال ابن عباس‏:‏ لا تشبه أمور الآخرة أمور الدنيا إلا في الأسماء فقط وإما الصفات فمتباينة، و‏{‏الطيب من القول‏}‏ لا إله إلاَّ الله وما جرى معها من ذكر الله تعالى وتسبيحه وتقديسه وسائر كلام أهل الجنة من محاورة وحديث طيب فإنها لا تسمع فيها لاغية، و‏{‏صراط الحميد‏}‏ هو طريق الله تعالى الذي دعا عباده إليه، ويحتمل أن يريد ب ‏{‏الحميد‏}‏ نفس الطريق فأضاف إليه على حد إضافته في قوله ‏{‏دار الآخرة‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 32، يوسف 109، النحل‏:‏ 30‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا ويصدون‏}‏ الآية، قوله ‏{‏ويصدون‏}‏ تقديره وهم يصدون وبهذا حسن عطف المستقبل على الماضي وقالت فرقة الواو زائدة ‏{‏ويصدون‏}‏ خبر ‏{‏إن‏}‏ وهذا مفسد للمعنى المقصود، وإنما الخبر محذوف مقدر عند قوله ‏{‏والبادي‏}‏ تقديره خسروا أو هلكوا، وجاء ‏{‏يصدون‏}‏ مستقبلاً إذ فعل يديمونه كما جاء قوله تعالى‏:‏

‏{‏الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 28‏]‏ ونحوه، وهذه الآية نزلت عام الحديبية حين صُدَّ رسولُ الله صلى عليه وسلم عن المسجد الحرام وذلك أنه لم يعلم لهم صد قبل ذلك الجميع إلا أن يراد صدهم لأفراد من الناس، فقد وقع ذلك في صدر المبعث، وقالت فرقة ‏{‏المسجد الحرام‏}‏ أرادوا به مكة كلها ع وهذا صحيح لكنه قصد بالذكر المهم المقصود من ذلك، وقرأ جمهور الناس «سواء» بالرفع وهو على الابتداء و‏{‏العاكف‏}‏ خبره، وقيل الخبر ‏{‏سواء‏}‏ وهو مقدم وهو قول أبي علي والمعنى الذي جعلناه للناس قبلة أو متعبداً، وقرأ حفص عن عاصم «سواء» بالنصب وهي قراءة الأعمش وذلك يحتمل وجهين أحدهما أن يكون مفعولاً ثانياً ل «جعل» ويرتفع «العاكفُ» به لأنه مصدر في معنى مستوٍ أُعْمِلَ عمل اسم الفاعل، والوجه الثاني ان يكون حالاً من الضمير في ‏{‏جعلنا‏}‏ وقرأت فرقة «سواءً» بالنصب «العاكفِ» بالخفض عطفاً على الناس، و‏{‏العاكف‏}‏، المقيم في البلد، و‏{‏البادي‏}‏، القادم عليه من غيره، وقرأ ابن كثير في الوصل والوقف «البادي» بالياء‏.‏ ووقف أبو عمرو بغير ياء، ووصل بالياء، وقرأ نافع «البادِ» بغير ياء في الوصل والوقف في رواية المسيبي، وأبي بكر وإسماعيل ابني أبي أويس، وروى ورش الوصل بالياء، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بغير ياء وصلاً ووقفاً، وهي في الإمام بغير ياء، وأجمع الناس على الاستواء في نفس ‏{‏المسجد الحرام‏}‏ واختلفوا في مكة، فذهب عمر بن الخطاب وابن عباس ومجاهد وجماعة معهم إلى الأمر كذلك في دور مكة وأن القادم له النزول حيث وجد، وعلى رب المنزل أن يؤويه شاء أو أبى، وقال‏:‏ سفيان الثوري وغيره، وكذلك كان الأمر في الصدر الأول، قال ابن سابط‏:‏ وكانت دورهم بغير أبواب حتى كثرت السرقة فاتخذ رجل باباً فأنكر عليه عمر وقال‏:‏ أتغلق باباً في وجه حاج بيت الله‏؟‏ فقال‏:‏ إنما أردت حفظ متاعهم من السرقة، فتركه فاتخذ الناس الأبواب، وقال جمهور من الأمة منهم مالك‏:‏ ليست الدور كالمسجد ولأهلها الأمتناع بها والاستبداد، وعلى هذا هو العمل اليوم، وهذا الاختلاف الأول متركب على الاختلاف في مكة هل هي عنوة كما روي عن مالك والأوزاعي، أو صلح كما روي عن الشافعي، فمن رآها صلحاً فإن الاستواء في المنازل عنده بعيد، ومن رآها عنوة أمكنه أن يقول الاستواء فيها، قرره الأئمة الذين لم يقطعوها أحداً وإنما سكنى من سكن من قبل نفسه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم «وهل ترك لنا عقيل منزلاً» يقتضي ان لا استواء وأنها متملكة ممنوعة على التأويلين في قوله تعالى عليه السلام لأنه تؤول بمعنى أنه ورث جميع منازل أبي طالب وغيره، وتؤول بمعنى أنه باع منازل بني هاشم حين هاجروا ومن الحجة لتملك أهلها دورهم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه اشترى من صفوان بن أمية داراً للسجن بأربعة آلاف، ويصح مع ذلك أن يكون الاستواء في وقت الموسم للضرورة والحاجة فيخرج الأمر حينئذ عن الاعتبار بالعنوة والصلح، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بإلحاد‏}‏ قال أبو عبيدة الباء زائدة ومنه قول الشاعر‏:‏

بواد يمان ينبت الشت صدره *** وأسلفه بالمرخ والشهبان

ومنه قول الأعشى‏:‏

ضمنت برزق عيالنا أرماحنا *** وهذا كثير ويجوز أن يكون التقدير ‏{‏ومن يرد فيه‏}‏ الناس ‏{‏بإلحاد‏}‏ و«الإلحاد» الميل، وهذا الإلحاد والظلم يجمع جميع المعاصي من الكفر إلى الصغائر، فلعظم حرمة المكان توعد الله تعالى على نية السئية فيه، ومن نوى سيئة ولم يعملها لم يحاسب بذلك إلا في مكة، هذا قول ابن مسعود وجماعة من الصحابة وغيرهم، وقال ابن عباس‏:‏ «الإلحاد» في هذه الآية الشرك، وقال أيضاً‏:‏ هو استحلال الحرام وحرمته، وقال مجاهد‏:‏ هو العمل السيئ فيه، وقال عبدالله بن عمرو‏:‏ قول لا والله وبلى والله بمكة من الإلحاد، وقال حبيب بن أبي ثابت‏:‏ الحكرة بمكة من الإلحاد بالظلم‏.‏ ع‏.‏ والعموم يأتي على هذا كله، وقرأت فرقة «ومن يرد» من الورود حكاه الفراء، والأول أبين وأعم وأمدح للبقعة، و‏{‏من‏}‏ شرط جازمة للفعل وذلك منع من عطفها على ‏{‏الذين‏}‏ والله المستعان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 28‏]‏

‏{‏وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ‏(‏26‏)‏ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ‏(‏27‏)‏ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

المعنى واذكر ‏{‏إذ بوأنا‏}‏، و«بوأ» هي تعدية باء بالتضعيف، و«باء» معناه رجع فكأن المبوِّئ يرد المبوأ إلى المكان، واستعملت اللفظة بمعنى سكن، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نتبوأ من الجنة حيث نشاء‏}‏ ‏[‏الرمز‏:‏ 74‏]‏ وقال الشاعر‏:‏

كم من أخ لي صالح *** بوأته بيديَّ لحدا

واللام في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لإبراهيم‏}‏ قالت فرقة هي زائدة، وقالت فرقة ‏{‏بوأنا‏}‏ نازلة منزلة فعل يتعدى باللام كنحو جعلنا ع والأظهر أن يكون المفعول الأول ب ‏{‏بوأنا‏}‏ محذوفاً تقديره الناس أو العالمين، ثم قال ‏{‏لإبراهيم‏}‏ بمعنى له كانت هذه الكرامة وعلى يديه بوؤا، و‏{‏البيت‏}‏ هو الكعبة، وكان فيما روي قد جعله الله تعالى متعبداً لآدم عليه السلام، ثم درس بالطوفان، وغيره فلما جاءت مدة إبراهيم أمره الله تعالى ببنائه، فجاء إلى موضعه وجعل يطلب أثراً، فبعث الله ريحاً فكشف له عن أساس آدم، فرفع قواعده عليه‏.‏ وقوله ‏{‏أن لا تشرك‏}‏ هي مخاطبة لإبراهيم عليه السلام، في قول الجمهور حكيت لنا بمعنى قيل له لا تشرك، وقرأ عكرمة «ألا يشرك» بالياء على نقل معنى القول الذي قيل له، قال أبو حاتم‏:‏ ولا بد من نصب الكاف على هذه القراءة بمعنى لأن لا يشرك ع يحتمل أن تكون «أن» في قراءة الجمهور مفسرة، ويحتمل أن تكون مخففة من الثقيلة، وفي الآية طعن على من أشرك من قطان البيت، أي هذا كان الشرط على أبيكم فمن بعد، وأنتم لم تفوا بل أشركتم، وقالت فرقة‏:‏ الخطاب من قوله ‏{‏أن لا تشرك‏}‏ لمحمد صلى عليه وسلم وأمر بتطهير البيت والأذان بالحج ع والجمهور على أن ذلك إبراهيم وهو الأصح‏.‏ وتطهير البيت عام في الكفر والبدع وجميع الأنجاس والدماء وغير ذلك، و«القائمون»، هم المصلون، وذكر تعالى من أركان الصلاة‏:‏ أعظمها‏.‏ وهي القيام والركوع والسجود، وقرأ جمهور الناس «وأذّن» بشد الذال، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وابن محيص «وآذن» بمدة وتخفيف الذال وتصحف هذا على ابن جني، فإنه حكى عنها «وأذن» فعل ماض وأعرب عن ذلك بان جعله عطفاً على ‏{‏بوأنا‏}‏، وروي أن إبراهيم عليه السلام لما أمر بالأذان بالحج قال يا رب وإذا ناديت فمن يسمعني‏؟‏ فقيل له ناد يا إبراهيم فعليك النداء وعلينا البلاغ فصعد على أبي قبيس وقيل على حجر المقام ونادى‏:‏ أيها الناس، إن الله قد أمركم بحج هذا البيت فحجوا واختلفت الروايات في ألفاظه عليه السلام واللازم أن يكون فيها ذكر البيت والحج، وروي أنه يوم نادى أسمع كل من يحج إلى يوم القيامة في أصلاب الرجال وأجابه كل شيء في ذلك الوقت من جماد وغيره لبيك اللهم لبيك، فجرت التلبية على ذلك، قاله ابن عباس وابن جبير، وقرأ جمهور الناس «بالحَج» بفتح الحاء، وقرأ ابن أبي إسحاق في كل القرآن بكسرها، و‏{‏رجالاً‏}‏، جمع راجل كتاجر وتجار، وقرأ عكرمة وابن عباس وأبو مجلز وجعفر بن محمد «رُجّالاً» بضم الراء وشد الجيم ككاتب وكتاب، وقرأ عكرمة أيضاً وابن أبي إسحاق «رُجالاً» بضم الراء وتخفيف الجيم، وهو قليل في أبنية الجمع ورويت عن مجاهد، وقرأ مجاهد «رُجالى» على وزن فعالى فهو كمثل كسالى، و«الضامر»، قالت فرقة أراد بها الناقة ع وذلك أنه يقال ناقة ضامر‏.‏

ومنه قول الأعشى‏:‏

عهدي بها في الحي قد ذرعت *** هيفاء مثل المهرة الضامر

فيجيء قوله ‏{‏يأتين‏}‏ مستقيماً على هذا التأويل، وقالت فرقة «الضامر» هو كل ما اتصف بذلك من جمل أو ناقة وغير ذلك ع وهذا هو الأظهر يتضمن معنى الجماعات أو الرفاق فيحسن لذلك قوله ‏{‏يأتين‏}‏ وقرأ أصحاب ابن مسعود «يأتون» وهي قراءة ابن أبي عبلة والضحاك، وفي تقديم ‏{‏رجالاً‏}‏ تفضيل للمشاة في الحج، قال ابن عباس‏:‏ ما آسى على شيء فاتني إلا أن أكون حججت ماشياً فإني سمعت الله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏يأتونك رجالاً‏}‏ وقال ابن أبي نجيح‏:‏ حج إبراهيم وإسماعيل ماشين، واستدل بعض العلماء بسقوط ذكر البحر من هذه الآية على أن فرض الحج بالبحر ساقط ع قال مالك في الموازية‏:‏ لا أسمع للبحر ذكراً ع وهذا تأسيس لا أنه يلزم من سقوط ذكره سقوط الفرض فيه، وذلك أن مكة ليست في ضفة بحر فيأتيها الناس بالسفن ولا بد لمن ركب البحر أن يصير في إيتان مكة إما راجلاً وإما على ‏{‏ضامر‏}‏ فإنما ذكرت حالتا الوصول، وإسقاط فرض الحج بمجرد البحر ليس بالكثير ولا القوي، فأما إذا اقترن به عدو أو خوف أو هول شديد أو مرض يلحق شخصاً ما، فمالك والشافعي وجمهور الناس على سقوط الوجوب بهذه الأعذار، وأنه ليس بسبيل يستطاع، وذكر صاحب الاستظهار في هذا المعنى كلاماً ظاهره أن الوجوب لا يسقطه شيء من هذه الأعذار ع وهذا ضعيف و«الفج» الطريق الواسعة، و«العميق» معناه البعيد‏.‏ وقال الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

إذا الخيل جاءت من فجاج عميقة *** يمد بها في السير أشعث شاحب

و «المنافع» في هذه الآية التجارة في قول أكثر المتأولين ابن عباس وغيره، وقال أبو جعفر محمد بن علي‏:‏ أراد الأجر و‏{‏منافع‏}‏ الآخرة، وقال مجاهد بعموم الوجهين وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اسم الله‏}‏، يصح أن يريد بالاسم ها هنا المسمى بمعنى ويذكروا الله على تجوز في هذه العبارة إلا أن يقصد ذكر القلوب، ويحتمل أن يريد بالاسم التسميات وذكر الله تعالى إنما هو بذكر أسمائه ثم بذكر القلب السلطان والصفات، وهذا كله على أن يكون الذكر بمعنى حمده وتقديسه شكراً على نعمته في الرزق ويؤيده قوله عليه السلام

«إنها أيام أكل وشرب وذكر الله تعالى»، وذهب قوم إلى أن المراد ذكر اسم الله تعالى على النحو والذبح، وقالوا إن في ذكر «الأيام» دليلاً على أن الذبح في الليل لا يجوز، وهو مذهب مالك وأصحاب الرأي، وقال ابن عباس «الأيام المعلومات» هي أيام العشر ويوم النحر وأيام التشريق، وقال ابن سيرين‏:‏ بل أيام العشر فقط، وقالت فرقة‏:‏ أيام التشريق، ذكره القتبي، وقالت فرقة فيها مالك وأصحابه‏:‏ بل المعلومات يوم النحر ويومان بعده وأيام التشريق الثلاثة هي معدودات فيكون يوم النحر معلوماً لا معدوداً واليومان بعده معلومان معدودان والرابع معدود لا معلوم ع وحمل هؤلاء على هذا التفصيل أنهم أخذوا ذكر ‏{‏اسم الله‏}‏ هنا على الذبح للأضاحي والهدي وغيره، فاليوم الرابع لا يضحى فيه عند مالك وجماعة وأخذوا التعجل والتأخر بالنفر في الأيام المعدودات فتأمل هذا، يبين لك قصدهم، ويظهر أن تكون المعدودات والمعلومات بمعنى أن تلك الأيام الفاضلة كلها ويبقى أمر الذبح وأمر الاستعجال لا يتعلق بمعدود ولا بمعلوم وتكون فائدة قوله ‏{‏معلومات‏}‏ و‏{‏معدودات‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 184، آل عمران‏:‏ 24‏]‏ التحريض على هذه الأيام وعلى اغتنام فضلها أي ليست كغيرها فكأنه قال‏:‏ هي مخصوصات فلتغتنم‏.‏ وقوله، ‏{‏فكلوا‏}‏ ندب، واستحب أهل العلم للرجل أن يأكل من هديه وأضحيته وأن يتصدق بأكثرها مع تجويزهم الصدقة بالكل وأكل الكل، و‏{‏البائس‏}‏ الذي قد مسه ضر الفاقة وبؤسها، يقال‏:‏ بأس الرجل يبؤس وقد يستعمل فيمن نزلت به نازلة دهر وإن لم تكن فقراً، ومنه قوله عليه السلام، «لكن البائس سعد بن خولة»، والمراد في هذه الآية أهل الحاجة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 31‏]‏

‏{‏ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ‏(‏29‏)‏ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ‏(‏30‏)‏ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ‏(‏31‏)‏‏}‏

اختلفت القراءة في سكون اللام في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليقضوا وليوفوا وليطوفوا‏}‏ وفي تحريك جميع ذلك بالكسر وفي تحريك «ليقضوا» وتسكين الاثنين وقد تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏فليمدد‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 15، مريم‏:‏ 75‏]‏ بسبب توجيه جميع ذلك، و«التفث» ما يصنعه المحرم عند حله من تقصير شعر وحلقه وإزالة شعث ونحوه من إقامة الخمس من الفطرة حسب الحديث وفي ضمن ذلك قضاء جميع مناسكه إذ لا يقضى التفث إلا بعد ذلك، وقرأ عاصم وحده في رواية أبي بكر «وليوَفّوا» بفتح الواو وشد الفاء، ووفى وأوفى لغتان مستعملتان في كتاب الله تعالى، وأوفى أكثر‏.‏ و«النذور» ما معهم من هدي وغيره، والطواف المذكور في هذه الآية هو طواف الإفاضة الذي هو من واجبات الحج، قال الطبري لا خلاف بين المتأولين في ذلك، قال مالك‏:‏ هو واجب يرجع تاركه من وطنه إلا أن يطوف طواف وداع فإنه يجزئه منه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويحتمل بحسب الترتيب أن تكون الإشارة إلى طواف الوادع إذ المستحسن أن يكون ولا بد، وقد أسند الطبري عن عمرو بن أبي سلمة قال‏:‏ سألت زهيراً عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليطوفوا‏}‏ بالبيت العتيق‏}‏ فقال‏:‏ هو طواف الوداع، وقال مالك في الموطأ واختلف المتألون في وجه صفة البيت ب ‏{‏العتيق‏}‏، فقال مجاهد والحسن ‏{‏العتيق‏}‏ القديم يقال سيف عتيق وقد عتق الشيء، قال الفقيه الإمام القاضي‏:‏ وهذا قول يعضده النظر إذ هو أول بيت وضع للناس إلا أن ابن الزبير قال‏:‏ سمي عتيقاً لأن الله تعالى أعتقه من الجبابرة بمنعه إياه منهم وروي في هذا حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا نظر مع الحديث، وقال فرقة‏:‏ سمي عتيقاً لأنه لم يملك موضعه قط، وقالت فرقة‏:‏ سمي عتيقاً لأن الله تعالى يعتق فيه رقاب المذنبين من العذاب، قال الفقيه الإمام القاضي‏:‏ وهذا يرد التصريف‏:‏ وقيل‏:‏ سمي عتيقاً لأنه أعتق من غرق الطوفان، قاله ابن جبير، ويحتمل أن يكون ‏{‏العتيق‏}‏ صفة مدح تقتضي جودة الشيء كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه «حملت على فرس عتيق» الحديث ونحوه قولهم كلام حر وطين حر، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ يحتمل أن يكون في موضع رفع بتقدير فرضكم ذلك أو الواجب ذلك، ويحتمل أن يكون في موضع نصب بتقدير امتثلوا ذلك ونحو هذا الإضمار، وأحسن الأشياء مضمراً أحسنها ومظهراً ونحو هذه الإشارة البليغة قول زهير‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

هذا وليس كمن يعطي بخطته *** وسط الندى إذا ما قائل نطقا

والحرمات المقصودة ها هنا في أفعال الحج المشار إليها في قوله ‏{‏ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم‏}‏ ويدخل في ذلك تعظيم المواضع، قاله ابن زيد وغيره، ووعد على تعظيمها بعد ذلك تحريضاً، وتحريصاً، ثم لفظ الآية بعد ذلك يتناول كل حرمة لله تعالى في جميع الشرع‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فهو خير‏}‏، ظاهره أنها ليست للتفضيل وإنما هي عدة بخير، ويحتمل أن يجعل ‏{‏خير‏}‏ للتفضيل على تجوز في هذا الموضع، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أحلت‏}‏ إشارة إلى ما كانت العرب تفعله من تحريم أشياء برأيها كالبحيرة والسائبة فأذهب الله تعالى ذلك وأحل لهم جميع ‏{‏الأنعام إلا ما يتلى‏}‏ عليهم في كتاب الله تعالى‏.‏ في غير موضع ثم أمرهم باجتناب ‏{‏الرجس من الأوثان‏}‏ والكلام يحتمل معنيين أحدهما أن تكون ‏{‏من‏}‏ لبيان الجنس فيقع نهيه عن رجس الأوثان فيقع نهيها في غير هذا الموضع، والمعنى الثاني أن تكون ‏{‏من‏}‏ لابتداء الغاية فكأنه نهاهم عن الرجس عاماً ثم عين لهم مبدأ الذي منه يلحقهم إذ عبادة الوثن جامعة لكل فساد ورجس، ويظهر أن الإشارة إلى الذبائح التي كانت للأوثان فيكون هذا مما يتلى عليهم، ومن قال ‏{‏من‏}‏ للتبعيض قلب معنى الآية ويفسده، والمروي عن ابن عباس وابن جريج أن الآية نهي عن عبادة الأوثان، و‏{‏الزور‏}‏، عام في الكذب والكفر وذلك أن كل ما عدا الحق فهو كذب وباطل وزور، وقال ابن مسعود وابن جريج‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «عدلت شهادة الزور بالشرك»، وتلا هذه الآية، و‏{‏الزور‏}‏ مشتق من الزور وهو الميل ومنه في جانب فلان زور ويظهر أن الإشارة في زور أقوالهم في تحريم وتحليل مما كانوا قد شرعوه في الأنعام، و‏{‏حنفاء‏}‏، معناه مستقيمين أو مائلين إلى الحق بحسب أن لفظة الحنف من الأضداد تقع على الاستقامة وتقع على الميل، و‏{‏حنفاء‏}‏ نصب على الحال، وقال قوم ‏{‏حنفاء‏}‏ معناه حجاجاً ع وهذا تخصيص لا حجة معه، و‏{‏غير مشركين‏}‏، ويجوز أن يكون حالاً أخرى، ويجوز أن يكون صفة لقول ‏{‏حنفاء‏}‏ ثم ضرب تعالى مثلاً للمشرك بالله أظهره في غاية السقوط وتحمل والانبتات من النجاة بخلاف ما ضرب للمؤمن في قوله ‏{‏فمن كفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 256‏]‏ ومنه قول علي رضي الله عنه‏:‏ إذا حدثتكم عن رسول الله فلأن أخر من السماء إلى الأرض أهون علي من أن أكذب عليه، الحديث‏.‏ وقرأ نافع وحده «فتخطّفه الطير» بفتح الخاء وشد الطاء على حذف تاء التفعل وقرأ الباقون «فتخْطفه» بسكون الخاء وتخفيف الطاء، وقرأ الحسن فيما روي عنه «فَتِخِطَّفه» بكسر التاء والخاء وفتح الطاء مشددة، وقرأ أيضاً الحسن وأبو رجاء بفتح التاء وكسر الخاء والطاء وشدها، وقرأ الأعمش «من السماء تخطفه» بغير فاء وعلى نحو قراءة الجماعة وعطف المستقبل على الماضي لأنه بتقدير فهو تخطفه الطير، وقرأ أبو جعفر، «الرياح» و«السحيق» البعيد ومنه قولهم أسحقه الله ومنه قوله عليه السلام «فسحقاً فسحقاً» ومنه نخلة سحوق للبعيدة في السماء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 35‏]‏

‏{‏ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ‏(‏32‏)‏ لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ‏(‏33‏)‏ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ ‏(‏34‏)‏ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

التقدير في هذا الموضع الأمر ذلك، و«الشعائر» جميع شعيرة وهي كل لله تعالى، فيه أمر أشعر به وأعلم، قال فرقة‏:‏ قصد ب «الشعائر» في هذه الآية للهدي والأنعام المشعرة، ومعنى تعظيمها تسميتها والاهتبال بأمرها والمغالاة بها قاله ابن عباس ومجاهد وجماعة، وعود الضمير في ‏{‏إنها‏}‏ على التعظمة والفعلة التي يتضمنها الكلام، وقرأ «القلوبُ» بالرفع على أنها الفاعلة بالمصدر الذي هو ‏{‏تقوى‏}‏، ثم اختلف المتألون في قوله ‏{‏لكم فيها منافع‏}‏ الآية، فقال مجاهد وقتادة‏:‏ أراد أن للناس في أنعامهم منافع من الصوف واللبن وغير ذلك ما لم يبعثها ربها هدياً فإذا بعثها فهو «الأجل المسمى»، وقال عطاء بن أبي رباح‏:‏ أراد في الهدي المبعوث منافع من الركوب والاحتلاب لمن اضطر، و«الأجل» نحرها وتكون ‏{‏ثم‏}‏ لترتيب الجمل، لأن المحل قبل الأجل ومعنى الكلام عند هاتين الفرقتين ‏{‏ثم محلها‏}‏ إلى موضع النحر فذكر ‏{‏البيت‏}‏ لأنه أشرف الحرم وهو المقصود بالهدي وغيره، وقال ابن زيد وابن عمر والحسن ومالك‏:‏ «الشعائر» في هذه الآية مواضع الحج كلها ومعالمه بمنى وعرفة والمزدلفة والصفا والمروة والبيت وغير ذلك، وفي الآية التي تأتي أن البدن من الشعائر، و«المنافع» التجارة وطلب الرزق، ويحتمل أن يريد كسب الأجر والمغفرة، وبكل احتمال قالت فرقة و«الأجل» الرجوع إلى مكة لطواف الإفاضة وقوله، ‏{‏محلها‏}‏ مأخوذ من إحلال المحرم ومعناه ثم أخر هذا كله إلى طواف الإفاضة ب ‏{‏البيت العتيق‏}‏، ف ‏{‏البيت‏}‏ على هذا التأويل مراد بنفسه، قاله مالك في الموطأ، ثم أخبر تعالى أنه جعل لكل أمة من الأمم المؤمنة ‏{‏منكساً‏}‏ أي موضع نسك وعبادة وهذا على أن المنسك ظرف المذبح ونحوه، ويحتمل أن يريد به المصدر، وكأنه قال عبادة ونحو هذا، والناسك العابد، وقال مجاهد‏:‏ سنة في هراقة دماء الذبائح، وقرأ معظم القراء «منسَكاً» بفتح السين وهو من نسك ينسك بضم السين في المستقبل، وقرأ حمزة والكسائي «منسِكاً» بكسر السين قال أبو علي‏:‏ الفتح أولى لأنه إما المصدر وإما المكان وكلاهما مفتوح والكسر في هذا من الشاذ في اسم المكان أن يكون مفعل من فعل يفعل مثل مسجد من سجد يسجد، ولا يسوغ فيه القياس، ويشبه أن الكسائي سمعه من العرب‏.‏ وقوله ‏{‏ليذكروا اسم الله‏}‏ معناه أمرناهم عند ذبائحهم بذكر الله وأن يكون الذبح له لأنه رازق ذلك، ثم رجع اللفظ من الخبر عن الأمم إلى إخبار الحاضرين بما معناه فالإله واحد لجميعكم بالأمر كذلك في الذبيحة إنما ينبغي ان تخلص له، و‏{‏أسلموا‏}‏ معناه لحقه ولوجهه ولإنعامه آمنوا وأسلموا، ويحتمل أن يريد الاستسلام ثم أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبشر بشارة على الإطلاق وهي أبلغ من المفسرة لأنها مرسلة مع نهاية التخيل، و‏{‏المخبتين‏}‏ المتواضعين الخاشعين من المؤمنين، والخبت ما انخفض من الأرض والمخبت المتواضع الذي مشيه متطامن كأنه في حدود من الأرض وقال عمرو بن أوس المخبتون الذين لا يظلمون إذا ظلموا لم ينتصروا‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا مثال شريف من خلق المؤمن الهين اللين، وقال مجاهد‏:‏ هم المطمئنون بأمر الله، ووصفهم تعالى بالخوف والوجل عند ذكر الله، وذلك لقوة يقينهم ومراعاتهم لربهم، وكأنهم بين يديه، ووصفهم بالصبر وبإقامة الصلاة وإدامتها، وقرأ الجمهور «الصلاة» بالخفض، وقرأ ابن أبي إسحاق «الصلاة» بالنصب على توهم النون وأن حذفها للتخفيف، ورويت عن أبي عمرو، وقرأ الأعمش «والمقيمين الصلاةَ» بالنون والنصب في «الصلاة» وقرأ الضحاك «والمقيم الصلاة»، وروي أن هذه الآية، قوله ‏{‏وبشر المخبتين‏}‏ نزلت في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 37‏]‏

‏{‏وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏36‏)‏ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

البدن جمع بدنة وهي ما أشعر من ناقة أو بقرة، قاله عطاء وغيره وسميت بذلك لأنها تبدن أي تسمن، وقيل بل هذا الاسم خاص بالإبل، وقالت فرقة ‏{‏البدن‏}‏ جمع بَدَن بفتح الدال والباء ثم اختلفت، فقال بعضها ‏{‏البدن‏}‏ مفرد اسم جنس يراد به العظيم السمين من الإبل والبقر، ويقال للسمين من الرجال بدن، وقال بعضها ‏{‏البدن‏}‏ جمع بدنة كمثرة وثمر، وقرأ الجمهور «والبدْن» ساكنة الدال، وقرأ أبو جعفر وشيبة والحسن وابن أبي إسحاق «البدُن» بضم الدال، فيحتمل أن يكون جمع بدنة كثمر، وعدد الله تعالى في هذه الآية نعمته على الناس في هذه ‏{‏البدن‏}‏، وقد تقدم القول في «الشعائر»، و«الخير» قيل فيه ما قيل في المنافع التي تقدم ذكرها والصواب عمومه في خير الدنيا والآخرة، وقوله، ‏{‏عليها‏}‏ يريد عند نحرها، وقرأ جمهور الناس «صوافَّ» بفتح الفاء وشدها جمع صافَّة أي مصطفة في قيامها، وقرأ الحسن ومجاهد وزيد بن أسلم وأبو موسى الأشعري وشقيق وسليمان التيمي والأعرج «صوافي» جمع صافية أي خالصة لوجه الله تعالى لا شركة فيها لشيء كما كانت الجاهلية تشرك، وقرأ الحسن أيضاً «صوافٍ» بكسر الفاء وتنوينها مخففة وهي بمعنى التي قبلها لكن حذفت الياء تخفيفاً على غير قياس وفي هذا نظر، وقرأ ابن مسعود وابن عمر وابن عباس وأبو جعفر محمد بن علي «صوافن» بالنون جمع صافنة وهي التي قد رفعت إحدى يديها بالعقل لئلا تضطرب، والصافن من الخيل الرافع لفراهيته إحدى يديه وقيل إحدى رجليه ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الصافنات الجياد‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 31‏]‏‏.‏

وقال عمرو بن كلثوم‏:‏

تركنا الخيل عاكفة عليه *** مقلدة أعنتها صفونا

و ‏{‏وجبت‏}‏، معناه سقطت بعد نحرها، ومنه وجبت الشمس، ومنه قول أوس بن جحر‏:‏ ألم تكسف الشمس والبدر والكواكب للجبل الواجب، وقوله ‏{‏كلوا‏}‏ ندب، وكل العلماء يستحب أن يأكل الإنسان من هديه وفيه أجر وامتثال إذ كان أهل الجاهلية لا يأكلون من هديهم، وقال مجاهد وإبراهيم والطبري‏:‏ هي إباحة، و‏{‏القانع‏}‏، السائل يقال قنَع الرجل يقنع قنوعاً إذا سأل، بفتح النون في الماضي، وقنِع بكسر النون يقنع قناعة فهو قنع إذا تعفف واستغنى، قاله الخليل ومن الأول قول الشماخ‏:‏

لَمَالُ المرء يصلحه فيغني *** مفاقره أعف من القنوع

فمحرور القول من أهل العلم قالوا ‏{‏القانع‏}‏ السائل ‏{‏والمعتر‏}‏ المتعرض من غير سؤال، قال محمد بن كعب القرظي ومجاهد وإبراهيم والكلبي والحسن بن أبي الحسن، وعكست فرقة هذا القول، حكى الطبري عن ابن عباس أنه قال ‏{‏القانع‏}‏ المستغني بما أعطيه ‏{‏والمعتر‏}‏ المتعرض، وحكي عنه أنه قال ‏{‏القانع‏}‏ المتعفف ‏{‏والمعتر‏}‏ السائل، وحكي عن مجاهد أنه قال ‏{‏القانع‏}‏ الجار وإن كان غنياً، وقرأ أبو رجاء «القنع» فعلى هذا التأويل معنى الآية أطعموا المتعفف الذي لا يأتي متعرضاً والمتعرض، وذهب أبو الفتح بن جني إلى أنه أراد القانع فحذف الألف تخفيفاً وهذا بعيد لأن توجيهه على ما ذكرته آنفاً أحسن وإنما يلجأ إلى هذا إذا لم توجد مندوحة، وقرأ أبو رجاء وعمرو بن عبيد «المعتري» والمعنى واحد، وروي عن أبي رجاء «والمعتر» بتخفيف الراء وقال الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

لعمرك ما المعتر يغشى بلادنا *** لنمنعه بالضائع المتهضم

وذهب ابن مسعود إلى أن الهدي أثلاث، وقال جعفر بن محمد عن أبيه‏:‏ أطعم ‏{‏القانع والمعتر‏}‏ ثلثاً، والبائس الفقير ثلثاً، وأهلي ثلثاً، وقال ابن المسيب‏:‏ ليس لصاحب الهدي منه إلا الربع وهذا كله على جهة الاستحسان لا على الفرض، ثم قال ‏{‏كذلك‏}‏ أي وكما أمرناكم فيها بهذا كله ‏{‏سخرناها لكم‏}‏، ‏{‏ولعلكم‏}‏، ترجّ في حقنا وبالإضافة إلى نظرنا، وقوله، ‏{‏ينال‏}‏ عبارة مبالغة وتوكيد وهي بمعنى لن يرتفع عنده ويتحصل سبب ثواب، وقال ابن عباس إن أهل الجاهلية كانوا يضرجون البيت بالدماء فأراد المؤمنون فعل ذلك فنهى الله عن ذلك ونزلت هذه الآية، والمعنى ولكن ينال الرفعة عنده والتحصيل حسنة لديه، ‏{‏التقوى‏}‏، أي الإخلاص والطاعات، وقرأ مالك بن دينار والأعرج وابن يعمر والزهري «تنال وتناله»، بتاء فيهما، والتسمية والتكبير على الهدي والأضحية هو أن يقول الذابح باسم الله والله أكبر، وروي أن قوله ‏{‏وبشر المحسنين‏}‏، نزلت في الخلفاء الأربعة حسبما تقدم في التي فأما ظاهر اللفظ فيقتضي العموم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 40‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ‏(‏38‏)‏ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ‏(‏39‏)‏ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ‏(‏40‏)‏‏}‏

روي أن هذه الآية نزلت بسبب المؤمنين لما كثروا بمكة وآذاهم الكفار وهاجر من هاجر إلى أرض الحبشة أراد بعض مؤمني مكة أن يقتل من أمكنه من الكفار ويغتال ويغدر فنزلت هذه الآية إلى قوله ‏{‏كفور‏}‏، ووكد فيها بالمدافعة ونهى أفصح نهي عن الخيانة والغدر، وقرأ نافع والحسن وأبو جعفر «يدافع» «ولولا دفاع»، وقرأ أبو عمرو وابن كثير «يدفع» «ولولا دفع»، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «يدافع» «ولولا دفع» قال أبو علي أجريت «دافع» في هذه القراءة مجرى «دفع» كعاقبت اللص وطابقت النعل فجاء المصدر دفعاً، قال أبو الحسن والأخفش‏:‏ أكثر الكلام أن الله «يدفع» ويقولون دافع الله عنك إلا أن دفع أكثر‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فحسن في الآية ‏{‏يدفع‏}‏ لأنه قد عن للمؤمنين من يدفعهم ويؤذيهم فتجيء معارضته ودفعه مدافعة عنهم، وحكى الزهراوي أن دفاعاً مصدر دفع كحسبت حساباً، ثم أذن الله تعالى في قتال المؤمنين لمن قاتلهم من الكفار بقوله ‏{‏أذن‏}‏ وصورة الإذن مختلفة بحسب القراءات فبعضها أقوى من بعض، فقرأ نافع وحفص عن عاصم «أُذن» بضم الألف «يقاتَلون» بفتح التاء، أي في أن يقاتلهم فالإذن في هذه القراءة ظاهر أنه في مجازات، وقرأ أبو عمرو وأبو بكر عن عاصم والحسن والزهري «أَذن» بفتح الألف «يقاتِلون» بكسر التاء، فالإذن في هذه القراءة في ابتداء القتال، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي «أَذن» بفتح الألف «يقاتِلون» بكسر التاء، وقرأ ابن عامر بفتح الألف والتاء جميعاً، وهي في مصحف ابن مسعود «أذن للذين يقاتِلون في سبيل الله» بكسر التاء، وفي مصحف أبي «أُذن» بضم الهمزة «للذين قاتلوا» وكذلك قرأ طلحة والأعمش إلا أنهما فتحا همزة «أَذن» وقوله ‏{‏بأنهم ظلموا‏}‏ معناه كان الإذن بسبب أنهم ظلموا، قال ابن جريج‏:‏ وهذه الآية أول ما نقص الموادعة، قال ابن عباس وابن جبير‏:‏ نزلت عند هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وقال أبو بكر الصديق لما سمعتها علمت أن سيكون قتال، وقال مجاهد الآية في مؤمنين بمكة أرادوا الهجرة إلى المدينة فمنعوا وما بعد هذا في الآية يرد هذا القول لأن هؤلاء منعوا الخروج لا أخرجوا، ثم وعد تعالى بالنصر في قوله ‏{‏وإن الله على نصرهم لقدير‏}‏، وقوله ‏{‏الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق‏}‏ يريد كل من نبت به مكة وآذاه أهلها حتى أخرجوا بإذايتهم طائفة إلى الحبشة وطائفة إلى المدينة، ونسب الإخراج إلى الكفار لأن الكلام في معرض تقرير الذنب وإلزامه، وقوله ‏{‏إلا أن يقولوا ربنا الله‏}‏ استثناء منقطع ليس من الأول هذا قول سيبويه ولا يجوز عنده فيه البدل وجوزه أبو اسحاق، والأول أصوب، وقوله ‏{‏ولولا دفاع الله‏}‏ الآية تقوية للأمر بالقتال وذكر الحجة بالمصلحة فيه وذكر أنه متقدم في الاسم وبه صلحت الشرائع واجتمعت المتعبدات، فكأنه قال أذن في القتال فليقاتل المؤمنون ولولا القتال والجهاد لتغلب على الحق في كل أمة، هذا أصوب تأويلات الآية، ثم ما قيل بعد من مثل الدفاع تبع للجهاد، وقال مجاهد ‏{‏ولولا دفاع الله‏}‏ ظلم قوم بشهادات العدول ونحو هذا، ولولا دفع الله ظلم الظلمة بعد الولاة، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ المعنى ولولا دفع الله بأصحاب محمد الكفار عن التابعين فمن بعدهم وهذا كله فيه دفع قوم بقوم إلا أن معنى القتال أليق بما تقدم من الآية، وقالت فرقة ‏{‏ولولا دفاع الله‏}‏ العذاب بدعاء الفضلاء ونحوه وهذا وما شاكله مفسد لمعنى الآية وذلك أن الآية تقتضي ولا بد مدفوعاً من الناس ومدفوعاً عنه فتأمله، وقرأ نافع وابن كثير «لهدمت» مخففة الدال، وقرأ الباقون «لهدّمت» مشددة وهذ تحسن من حيث هي صوامع كثيرة ففي هدمها تكرار وكثرة كما قال

‏{‏بروج مشيدة‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 78‏]‏ فثقل الياء وقال ‏{‏قصر مشيد‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 45‏]‏ فخفف لكونه فرداً ‏{‏وغلقت الأبواب‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 43‏]‏ و‏{‏مفتحة لهم الأبواب‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 50‏]‏ و«الصومعة» موضع العبادة وزنها فوعلة وهي بناء مرتفع منفرد حديد الأعلى، والأصمع، من الرجال الحديد القول وكانت قبل الإسلام مختصة برهبان النصارى وبعباد الصابئين، قاله قتادة، ثم استعمل في مئذنة المسلمين والبيع كنائس النصارى واحدتها بيعة قال الطبري‏:‏ وقيل هي كنائس اليهود ثم أدخل عن مجاهد ما لا يقتضي ذلك، و«الصلوات» مشتركة لكل ملة واستعير الهدم للصلوات من حيث تعطل، أو أراد وموضع صلوات، وذهبت فرقة إلى أن الصلوات اسم لشنائع اليهود وأن اللفظة عبرانية عربت وليست بجميع صلاة، وقال أبو العالية الصلوات مساجد الصابئين، واختلفت القراءة فيها فقرأ جمهور الناس «صَلَوات» بفتح الصاد واللام وبالتاء بنقطتين وذلك إما بتقدير ومواضع صلوات وإما على أن تعطيل الصلاة هدمها، وقرأ جعفر بن محمد «صَلْوات» بفتح الصاد وسكون اللام، وقرأت فرقة بكسر الصاد وسكون اللام حكاها ابن جني، وقرأ الجحدري فيما روي عنه «وصُلُوات» بتاء بنقطتين من فوق وبضم الصاد واللام على وزن فعول قال وهي مساجد النصارى، وقرأ الجحدري والحجاج بن يوسف «وصُلُوب» بضم الصاد واللام والباء على أنه جمع صليب، وقرأ الضحاك والكلبي «وصُلُوث» بضم الصاد واللام وبالثاء منقوطة ثلاثاً قالوا وهي مساجد اليهود، وقرأت فرقة «صَلْوات» بفتح الصاد وسكون اللام، وقرأت فرقة «صُلُوات» بضم الصاد واللام حكاها ابن جني، وقرأت فرقة «صلوثا» بضم الصاد واللام وقصر الألف بعد الثاء، وحكى ابن جني أن خارج باب الموصل بيوتاً يدفن فيها النصارى يقال لها «صلوات»، وقرأ عكرمة ومجاهد «صلويثا» بكسر الصاد وسكون اللام وكسر الواو وقصر الألف بعد الثاء قال القاضي‏:‏ وذهب خصيف إلى أن هذه الأسماء قصد بها متعبدات الأمم، و«الصوامع» للرهبان ع وقيل للصابئين، و«البيع» للنصارى، و«الصلوات» لليهود و«المساجد» للمسلمين والأظهر أنها قصد بها المبالغة بذكر المتعبدات وهذه الأسماء تشترك الأمم في مسمياتها إلا البيعة فإنها مختصة بالنصارى في عرف لغة العرب، ومعاني هذه الأسماء هي في الأمم التي لها كتاب على قديم الدهر ولم يذكر في هذه المجوس ولا أهل الاشتراك لأن هؤلاء ليس لهم ما تجب حمايته ولا يوجد ذكر الله إلا عند أهل الشرائع، وقوله ‏{‏يذكر فيها‏}‏ الضمير عائد على جميع ما تقدم ثم وعد الله تعالى بنصره نصرة دينه وشرعه، وفي ذلك حض على القتال والجد فيه ثم الآية تعم كل من نصر حقاً إلى يوم القيامة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 44‏]‏

‏{‏الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ‏(‏41‏)‏ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ ‏(‏42‏)‏ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ ‏(‏43‏)‏ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ‏(‏44‏)‏‏}‏

قالت فرقة‏:‏ هذه الآية في الخلفاء الأربعة ومعنى هذا التخصيص أن هؤلاء خاصة مكنوا في الأرض من جملة الذين يقاتلون المذكورين في صدر الآية، والعموم في هذا كله أبين وبه يتجه الأمر في جميع الناس، وإنما الآية آخذة عهداً على كل من مكنه الله، كل على قدر ما مكن، فأما ‏{‏الصلاة‏}‏ و‏{‏الزكاة‏}‏ فكل مأخوذ بإقامتها وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فكل بحسب قوته والآية أمكن ما هي في الملوك، و‏{‏المعروف‏}‏ و‏{‏المنكر‏}‏ يعمان الإيمان والكفر دونهما، وقالت فرقة‏:‏ نزلت هذه الاية في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة من الناس وهذا على أن ‏{‏الذين‏}‏ بدل من قوله ‏{‏يقاتلون‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 39‏]‏ أو على أن ‏{‏الذين‏}‏ تابع ل ‏{‏من‏}‏ في قوله ‏{‏من ينصره‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 40‏]‏، وقوله ‏{‏ولله عاقبة الأمور‏}‏ توعد للمخالف عن هذه الأوامر التي تقتضيها الآية لمن مكن، وقوله ‏{‏وإن يكذبوك‏}‏ يعني قريشاً وهذه آية تسلية للنبي عليه السلام ووعيد قريش، وذلك أنه مثلهم بالأمم المكذبة المعذبة وأسند فعلاً فيه علامة التأنيث إلى قوم من حيث أراد الأمة والقبيلة ليطرد القول في ‏{‏عاد وثمود‏}‏ و‏{‏قوم نوح‏}‏ هم أول أمة كذبت نبيها ثم أسند التكذيب في موسى عليه السلام إلى من لم يسم من حيث لم يكذبه قومه بل كذبه القبط وقومه به مؤمنون، و‏{‏أمليت‏}‏، معناه فأمهلت وكأن الإمهال أن تمهل من تنوي فيه المعاقبة، وأنت في حين إمهالك عالم بفعله‏.‏ و«النكير»، مصدر كالعذير بمعنى الإنكار والأعذار وهو في هذه المصادر بناء مبالغة فمعنى هذه الآية فكما فعلت بهذه الأمم كذلك أفعل بقومك‏.‏